البحث عن العوامل المؤدية للإعراض عن الدين، بحث طويل؛ وهذا السؤال، يطرح بالخصوص على
أولئك المعتقدين بفطري الدين.
وأنقل هنا عن كتاب (الله يتجلى في عصر العلم) حديثاً حول هذا المجال؛ حيث تعرض (وولنز أوسكار لند برج)، في مقالته لعوامل الانحراف؛ فذكر عاملين:
يقول: ويرجع فشل بعض العلماء، في فهمهم وقبولهم لما تدل عليه المبادئ الأساسية، التي تقوم عليها الطريقة العلمية من وجود الله والإيمان به، إلى أسباب عديدة نخص اثنين منها بالذكر:
1 ـ يرجع إنكار وجود الله في بعض الأحيان، إلى ما تتبعه بعض الجماعات أو المنظمات الإلحادية أو الدولة: من سياسة معينة ترمي إلى شيوع الإلحاد، ومحاربة الإيمان بالله، بسبب تعارض هذه العقيدة مع صالح هذه الجماعات أو مبادئها.
2 ـ وحتى عندما تحرر عقول الناس من الخوف، فليس من السهل أن تتحرر من التعصب والأهواء؛ ففي جميع المنظمات الدينية المسيحية، تُبذل محاولات لجعل الناس يعتقدون منذ طفولتهم، في إله هو على صورة الانسان بدلاً من الاعتقاد بأن الانسان قد خُلق خليفة الله على الأرض، وعندما تنمو العقول بعد ذلك، وتتدرب على استخدام الطريقة العلمية، فإن تلك الصور التي تعلموها منذ الصغر، لا يمكن أن تنسجم مع أسلوبهم في التفكير، أو مع أي منطق مقبول؛ وأخيراً عندما تفشل جميع المحاولات في التوفيق بين تلك الأفكار الدينية القديمة، وبين مقتضيات المنطق والتفكير العلمي، نجد هؤلاء المفكرين يتخلصون من الصراع بنبذ فكرة الله كليّةً؛ وعندما يصلون إلى هذه المرحلة، ويظنون أنهم قد تخلصوا من أوهام الدين، وما ترتب عليها من نتائج نفسية، لا يحبون العودة إلى التفكير في هذه الموضوعات؛ بل، يقاومون قبول أية فكرة جديدة تتصل بهذه الموضوعات، وتدور حول وجود الله.
إن هذين العاملين كانا سبباً لانحراف الكثيرين عن الدين فإن الكثير والمثقفين منهم بالخصوص قد انحرفوا، لتعرضهم على المفاهيم الدينية إبان طفولتهم؛ من الأبوين اللذين لا يمتلكان معرفة صحيحة، حولها، أو بسبب دعاة الدين الجهلاء، الذين لا يملكون إلا هذه التصورات الخاطئة والمشوهة، بحيث لا تتلائم مع العقل والعلم والمنطق.
ومن الواضح أن الانسان حين ينضج عقلياً، ويتعرف على المنجزات العلمية، والمنطقية، فلا يمكنه أني تقبل مثل هذه التصورات والمفاهيم المشوهة، غير المعقولة وغير المنطقية، للمفاهيم الدينية؛ ومن هنا يندفعون للانحراف، أو الإلحاد؛ لأنهم يعتقدون بأن الإيمان بالله، يتحدد بهذه الصور المشوهة، التي عرفتها أذهانهم؛ لذلك ينكرون الله.
ولعل هذا هو الدافع، لانحراف الكثيرين من المثقفين عن الدين، وبالحقيقة أنهم لا يرفضون المفاهيم الحقيقية لله والدين، بل مفاهيم أخرى.
وإن الكثير قد انحرفوا، نتيجة للايحاءات الغبية المشوهة للأمهات، والآباء والمبلغين الجهلة؛ لذلك امتلأت أذهانهم ـ في مجال المسائل الدينية ـ بالكثير من التصورات، والمفاهيم الخاطئة؛ وهي التي دفعتهم إلى التشكيك في الدين؛ بل إلى الإعراض عنه؛ ومن هنا يلزم علينا أن نبذل جهوداً كثيرة، من أجل عرض الصورة الصحيحة والحقيقية للأصول، والمسائل الدينية.
وقد أحسستُ شخصياً بهذه الحقيقة المرة، لذلك بذلتُ مختلف الجهود والنشاطات، وبشتى الوسائل؛ من أجل توضيح المفاهيم والتصورات الاسلامية الأصيلة، بصورتها الحقيقية، غير المشوهة والمنحرفة، وقد دلّت تجاربي في هذا المجال، على أن هذا العمل كان ناجحاً ومثمراً جداً.
ولكن لا تنحصر عوامل الانحراف في هذين العاملين، فهناك عوامل أخرى نذكر بعضها:
1 ـ من العوامل التي تؤدي لانحراف الناس وتنفرهم من الدين والله، وكل القيم المعنوية، هو تلوث المحيط، بالأوحال الشيطانية، وغرق الأفراد، وغيبوبتهم في عبادة اللذة، والشهوة، والهوى؛ حيث تحفل تلك البيئة الاجتماعية بكل ما يُشعل لهيب الشهوة، والغرائز الحيوانية؛ ومن الواضح أن الغيبوبة في الشهوات الحيوانية المنحطة، تتنافى وكل المشاعر السامية، سواء كانت دينية أو أخلاقية أو علمية أو فنية أو غيرها؛ فإنها، كلها ستموت، وتنطفئ، نتيجة الحياة الحيوانية هذه.
فن عبدَ الشهوة، والغارق بأوحالها، كما لا يحس بالمشاعر الدينية الرفيعة؛ كذلك يفقد الإحساس بالعزة والشرف، والسيادة، والرجولة، والشجاعة، والتضحية؛ ويغدو أسيراً لشهواته المادية الحسية، ويضعف ويضمر إحساسه بالأمور المعنوية جميعها، سواء الدينية منها أو الأخلاقية أو العلمية أو الفنية وغيرها.
لذلك لو أرادت أمه، أن تقتل من الأمة الأخرى، روح الدين، والأخلاق، والشجاعة، والرجولة؛ عليها أن تغرقها بوسائل اللهو، وموائد الشهوة واللذة؛ وتجارب التاريخ تشهد على هذه الحقيقة المرة.
وما حدث في الأندلس الاسلامي، حين خرج من يد المسلمين، هو نموذج لذلك، فقد وفر أعداء الاسلام لهم كل وسائل المتعة المحرمة، ومثيراتها؛ فقد أوقفوا الحقول النظرة لصنع الخمرة، وغمروها بالحانات والفتيات المنحرفات، اللواتي أخذن يخطرن بكل خلاعة في شوارعها؛ فماتت روح الدين والشرف؛ ونتيجة لذلك تمكن أعداء الدين من السيطرة على الأندلس، بكل سهولة، ونجحوا في إبادة المسلمين.
وقد استخدم الاستعمار الغربي اليوم هذه الطريقة، وبصورة أكثر دقة في البلاد الاسلامية.
إذن، فالغرق في الشهوات، يؤدي إلى ضمور الإحساس الديني، وضعف تأثيره؛ بل، وقد صرح القرآن الكريم بذلك؛ فانه لو صارت القلوب قاتمةً، مظلمة، وتكدرت وقسمت، فحينئذ لا يجد نور الإيمان منفذاً إليها؛ كما في قوله تعالى: (إن الله لا يهدي القوم الفاسقين) المنافقون/ 6.
2 ـ ان البعض ممن حملوا مسؤولية الارشاد للدين، لم يعرفوا واقع الدين، وحقيقته ولا أسلوب الدعوة إليه؛ فبدلاً من الدعوة إلى تعديل الغرائز البشرية، وتوجيهها التوجيه الصحيح، نراهم يدعون لمحاربة الغرائز والميول الفطرية البشرية، ويشيعون بأن الدين يعادي هذه الغرائز الفطرية، ويدعو إلى القضاء عليها.
فإن للبشر رغبات، وغرائز، فطرية كثيرة، وكلها دخيلة في تكامل الانسان وسعادته.
فالرغبات لم تُخلق عبثاً ولغواً، حتى تقتل وتحارب، ويقضى عليها؛ كما هو الأمر في أعضاء الانسان الخارجية، فلم توضع عبثاً في بدن الانسان.
كذلك ميول الانسان، فإن هناك الكثير من الميول الفطرية، أمثال حب الاستطلاع والمعرفة، والرغبة في الثروة، والميل لتشكيل الأسرة؛ ومنها الدافع الديني أيضاً.
ولا يُوجد بين هذه الميول صراع وقتال، ولا تضاد وعداء حقيقي، وكل واحدة منها لها نصيبها في مجال العمل؛ فإذا استعملت في حدودها المقررة لها، وإذا منح لها نصيبها بعدالة، فسوف تعيش فيما بينها بسلام، وإنما يبدأ الصراع بينها حين يعطي الفرد لأحدها نصيباً أكثر، على حساب الميول الأخرى، فيشبعها أكثر من الحد المقرر لها.
ومن مميزات الاسلام أنه قد اعترف بجميع الميول الفطرية في الانسان، ولم يرفضها، ولم يمنح لإحداها، سهماً ونصيباً أكثر ما تستحقه.
وهذا هو معنى فطرية التعاليم والقوانين الاسلامية، أي تلاحم هذه القوانين، وعدم عدائها ومعارضتها للفطرة البشرية؛ أي كما أن الإيمان والعبادة في الاسلام، من أجل تربية وتنمية الإحساس الفطري الكامن في النفس الانسانية، وكذلك التعاليم الاسلامية، فإنها متلائمة مع الفطرة البشرية ومتلاحمة معها.
ولكن بعض الأفراد الذين يتظاهرون بالتقدس والزهد، والذين يدّعون بأنهم الدعاة إلى الدين، يحاربون كل شيء باسم الدين، ويرفعون هذا الشعار في أحاديثهم وخطاباتهم، فهم يقولون: لو أردت أن تصبح مؤمناً، متديناً حقاً؛ فيجب أن تقتل في نفسك كل الميول والغرائز: الميل للثروة، والغريزة الجنسية، والرغبة في الزوجة والأولاد، والرغبة في المعرفة والاستطلاع، والظهور، واقبع في غرفتك، منعزلاً بعيداً عن المجتمع؛ وعلى وفق هذا الرأي، إذا أراد الفرد أن يستجيب للدافع الديني، فيلزم عليه أن يحارب الدوافع والميول الأخرى كلها.
ولكن لو فُهِم الزهد بأنه الهروب من المجتمع، والعزلة، وترك العمل؛ لو عُرف الدين أنه يحارب الغريزة الجنسية، وأنه يعتبرها أمراً قبيحاً، يجب على المتدين اجتيازها، وعدم الاستجابة لها، والانسان الأفضل، هو الذي يتجنب المرأة طوال عمراه، وكذلك لو عرف عن الدين أنه عدو العلم، وأنه يحرض على إحراق العلماء وقتلهم، والتنكيل بهم، وغيرها من الشائعات والتصورات الخاطئة والمنحرفة عن الدين؛ نعم، هذه وغيرها، ستزرع في النفوس العداء، لمثل هذا الدين.
فيلزم على دعاة الدين:
1 ـ أن يتعرفوا على التعاليم الدينية الأصيلة، وأن يكونوا بأنفسهم من العلماء والمحققين في المسائل الدينية، وأن لا يلقوا في أذهان الناس، تلك التصورات والمفاهيم المنحرفة، وغير المعقولة، باسم الدين، حيث أن هذا الفهم للدين يؤدي إلى الانحراف عنه، وإلى الكثير من التيارات المعارضة له.
2 ـ تطهير البيئة الاجتماعية من الأوحال التي تلوثها.
3 ـ أن تكون لهم تلك الرؤية الواقعية للغرائز كلها، فلا يحاربون الغرائز الفطرية، باسم الدين، وآنذاك سترى بأن الناس (يدخلون في دين الله أفواجاً) النصر/